منتدى مركز التوازن للتنمية البشرية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

اهلا عزيزي الزائر(ة)
منتديات مركزنا تهتم بتنمية الإنسان بالدرجة الأولى، وتعمل على التطوير بشكل تدريجي منظم لبناء بنية تحتية قوية للفرد و المجتمع .
للتواصل ومعرفة أخر الأخبار يرجى التسجيل...
منتدى مركز التوازن للتنمية البشرية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

اهلا عزيزي الزائر(ة)
منتديات مركزنا تهتم بتنمية الإنسان بالدرجة الأولى، وتعمل على التطوير بشكل تدريجي منظم لبناء بنية تحتية قوية للفرد و المجتمع .
للتواصل ومعرفة أخر الأخبار يرجى التسجيل...
منتدى مركز التوازن للتنمية البشرية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى مركز التوازن للتنمية البشرية

مركزنا يهتم بتنمية الإنسان بالدرجة الأولى، ويعمل على التطوير بشكل تدريجي منظم لبناء بنية تحتية قوية للفرد و المجتمع .
 
الرئيسيةالاعلاناتأحدث الصورالتسجيلدخول
لجميع الأسئلة و الاستفسارات والمساعدات والنقاشات أ/مشاري 0562320796 0541979745 ana-ـ-chocho@hotmail.com

 

 إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
دودي

دودي


عدد المساهمات : 60
تاريخ التسجيل : 12/05/2010
العمر : 34

إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة Empty
مُساهمةموضوع: إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة   إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة Icon_minitimeالخميس مايو 13, 2010 3:41 pm

الهدوء التـام... يبدو أن الكلّ نيـام...

القـافلة تواصل ركضها المسعور، محـاذية حقولا و أراضي وارفة، مُـظلمة..

أظننـي الوحيد الذي لم يتمكن منه النوم بعد.. استثنـاءا للسائق طبعا...

أهرب ببصري من ظلمة المكـان إلى الخارج... لا توجد مصابيح إنارة بـهذه المنطقة.. بل أستطيع الجزم أني أكـاد لا أميّـز شيئا ماعدا رؤوس الأشجار وقد لامسَـتها أشعة القمر الفضية..

تحسّست ذلك الخدر اللذيذ يتربص عينيّ... إنه الكـرى أخيرا.. هذا الضيف المحبوب الذي ننتظره حينما تفتك بنا هموم الحياة و مشاغلها فـتكا و تُردينا سكارى مُـترنحين.. نترقب قدومه و نتلهف سماع قرع خطواته الساحرة، تلهّف و ترقّب العاشق الولهـان..

و لكن لا... لا يجب أن أنـام.. فموعد نزولي قريب لا محـالة...

لطالمـا ترقّبت هذا اليوم بقليل صبر و اصطبـار... يوم السفر إلى القرية، حيث ينتظرني عمّي الحبيب لأمضي أياما طوالا في ضيـافته.. و ما أحلاها من أيـام !..

ولكن المعضلة التي شغلت ذهني وعكّرت صفاء بالي منذ صعودي الحافلة هي كوني سأضطر إلى اجتياز هذه الحقول اللانـهائية و في هذه الظلمة الظلماء بحثا عن بيت عمي العزيز!.. إنـما الغلطة غلطتي.. مـا كـنت لأسـافر بـهذا الوقت المتـأخر من الليل !..

نـفضت عني النعاس و حاولت التسلّي بالاستـغراق في التـفكـير حول مشكلتي السخيفة.. علّني أجد طريقة لتـفادي المرور وسط المزارع المخيفة..

عيناي تنتـظران الجسر إياه، كي أصرخ في السائـق أن يتوقف... ذلك الجسر العتيق الذي يعلو نـهرا من أضخم أنـهار البلاد.. كم استمتعت بالسباحة على ضفافه و أنا ابن السادسة.. كنت حينها...

بُـترت سلسلة أفكاري على حين غرة لمـّا لاح الجسر شامخـا أمام ناظريّ.. اعتدلت مكاني بعنـف و صرخت :

- هنا أيـها السائق... هنا من فضلك !!..

- اللّعنـة !!..

كان هذا أحدهم طبعا، و قد اقتلعه صراخي من سباته اقتلاعا، و هو يتذمّر بعصبيـة محاولا الإعراب عن قلة ذوقي و عديم إحسـاسي و كذا همجيتي.. وهذا من حقه بالتأكيـد..

استجاب السائق لطلبي ببـرود وضغط الفرامل ليستيقظ باقي الركاب و يبدأ اللعن و الشتم...

نزلت السلّم بحذر مزعج وأنا أتوقع السقوط على فكّي السفلي في أية لحظة..

غمرني دخان الحافلة الكريه وهي تبتعد.. برد قارص صفع وجهي.. غادرت الطريق بخطى متثاقلة ثم توقـفت محملقا في الظلام الذي يحاصرني من كل صوب و حدب...

أتمنى تذكّر موقع المنـزلِ و قد انقضى على ذهابي إليه آخر مرة ما يناهز أربع سنوات.. مع فارق بسيط.. فـقد اهتديت إليه حينها تحت ضوء النهـار.. أما الآن فلا أكـاد أتبيّن شيئا !!..

و لكن لا بأس.. هناك مصباح يدوي.. أظنه سيَفي بالغرض...


* * *




نـثرت الضوء أمامي و أنا أتـقدم بممرّ ضيق وسط حقل شاسع من الذرى... أسمع نقيق الضفادع بمكان ما و خترشة الجراد الرتيبة قد بدأت تألفها أذنـاي...

لا أذكر شيئا عن الطريق التي سلكتها قبل أربع سنوات، و لكنها حتما قرب الجسر...

التـقطتْ عيناي جسماً غريبا !!.. و بشكل لا إراديّ تسمّرتُ مكاني و انقبض قلبي قبل أن أميّـز ماهيته بالضبط !...

جسم يبدو آدميا جدا... لكن المرعب فيه هو كونه معلّقا !.. إن لم أقل مشنوقـا إلى غصن شجرة ضخمة !...

توقـفتُ مذعورا... بلعتُ ريقي بصوت مسموع و ارتجـفتْ بقعة الضوء أمامي و أنا أفكر في الهرب إلى... إلى أين ؟..

أدركت أنه لا مجال للفرار.. و بصعوبة جمـّة سلّطت عليه ضوء المصبـاح...

انتصب شعر رأسي بعنـف، وتجمّع الدم بدمـاغي حتى قارب الانفجار... ثم، و بشكل مفاجئ، شعرتُ بسريان الدم من جديد في عروقي الخاوية و استرجعتْ أشواك رأسي ليونتها عندما فهمتُ أن الجسم لا يعدو مجرد فزّاعة نصبـها أحد الفلاحين لإرعـاب الطيور.. و الأشخاص المغفّلـين مثلي..

استشعرتُ الهواء البارد يداعب وجنتاي وكأنه كان قد توقف بدوره من هول الصدمة !.. بصقتُ بعصبية و لعنتُ الليل و الحقل و الفزّاعة و نفسي و.. وعمي... أعلم أن عمي لا دخل له في كل هذا و لكنني لعنته على أية حال!..

واصلتُ التـقدم بالممر الحجري إياه محاولا تذكير نفسي بكوني رجلا كهلا و ليس طفلا غبيا يبلل سرواله الداخليّ لأسباب تافهة..


* * *

تبا !.. ما أطول هذا السبيـل... ربع ساعة و أنا أجرّ قدمـيّ دون أن أعثر للحياة من دليـل...

* * *

كشف ضوء المصباح الشاحب عن منـزل ما خلف إحدى الشجيرات... هذا جميل!.. بل رائع!.. تقدمت نحوه متوغلا بحقل الذرى و أنا أدندن بأغنية ما كدليل على فرحتي...

كنت أُبعد سنابل الذرى عن طريقي بيدي اليسرى و أحمل باليمنى المصباح الذي يتـفحص بحذر جدران المنـزل إياه..

لماذا يبدو مهجورا إلى هذا الحد ؟.. هل هي نوافذه المكسّرة ؟.. أم بابه الخشبي المهترئ و الذي لم أحبب منظره كثيرا ؟..


* * *

لم أشأ الاقتراب أكثر.. و أجهـل المبرر...

و بعد أن طُفت عليه وتفقّدتُ المكــان حوله، تأكدتُ تماما أنه مهجور...

لكن ما لم أستسغه جيدا هو كون هذا المنـزل الوحيد هاهنا، و الظاهر أنه لصاحب الحقل... و مادام مهجورا !.. فمن يعمل بالأرض إذن ؟..

تواثبت هذه الأفكـار في ذهني بينما أبحث بعين المصباح عن شيء ما... في الحقيقة كنت أبحث عن منزل آخر يُفترض أن يكون لصاحب الحقل.. أيّ منـزل يحمل إمارات الحياة البشرية لتتلاشى عنده أفكاري المرعبة.. بيد أنني - لسوء حظي - وجدت نظريتي المخيفة، والتي تقتضي أن يكون هذا المنـزل اللعين بجانبي مِلكا لصاحب الحقل.. وجدتها صائبة تماما.. بل أصبحتْ حقيقة قائمة بذاتها بعدما لمح مصباحي أشجارا ضخمة ترسم حدودا للحقل !!..

حِرت و لم أعرف جواب ذلك السؤال الذي كـان سيرتطم برأس أيّ مخلوق مكـاني.. " ما العمـل ؟ "...

سأمتُ منظر السّنابل على يميني، و شعرتُ بتقزّز غامض كلما سلّطتُ الضوء على جدران المنزل على يساري..

داهمتني فكرة جنونية على حين غرة... لماذا لا أبيت بالمنزل حتى الصباح، و من تمّ أواصل بحـثي ؟..

ارتجف جسمي لهـول الفكرة... فما من شيء أهابه في حياتي أكثر من المنازل الفارغة !!..

ولكن من جهة أخرى، أجدني في الخلاء، وسط حقل مترامي الأطراف هو حتما مليء بالحشرات و الزواحف...

ارتعشت فرائصي مرة ثـانية و أنا أرمق المنزل بعينين ضائعتين... و لم أدري، حينها، لمِـَا خُيـّلت إليّ نافذة من نوافذه المحطمة وجها لشبحٍ يبتسم !!..


* * *

و أنا منغمس تماما في أفكاري الهوجاء تناهى إلى مسمعي صوتٌ أشبه إلى فحيح الثعبان من أيّ صوت آخر...

اقـتُلِعت من نفسي اقتلاعا والتفتُّ لا إراديا نحو مصدر الفحيح، وقد كـان على يميني مباشرة !..

اتسعت عيناي من فرط الصدمة.. فهناك على غصن شجرة زيتون فتية.. تدلت أفعى رقطاء، يلمع جسمها الرشيق تحت ضوء القمر..

اقشعرّ بدني وأنا أتفحصها بضوء المصباح المتهالك وقد تأكّدَتْ بداخلي رغبة المبيت بالمنـزل...

و بغُصّة في الحلق تقدمت نحو البوابة المتآكلة مُردّدا دعاءا ما...


* * *
لم أتوقع أن تكون البوابة سهلة الفتح إلى هذا الحد !!.. فما إن دفعتها بجهد تافه حتى سُمع ذلك الصّرير الشهير الذي يصدر عن أيّ باب قديم في العالم..

ماذا رأيت بالداخل ؟... في الواقع لم أر شيئا بالمرة.. فالظلام كان كثيفا لدرجة غير عادية !..

كنت أتابع بقعة الضوء بنهم وهي تبدد السواد و تكشف عن أثاث باليّ، مُغطّى بذلك الثوب الأبيض المـثير للوحشة.. وطبعا هناك خيوط العنكبوت في كل مكـان...

صَـعُب عليّ التقدّم.. ولكني تقدمت، متمنيا ألاّ ينغلق الباب لوحده بصوت مدوّي كما في أفلام الرعب !... إلاّ أن ذلك لم يحدث لحسن حظي..

واصلت الخطو بحذر شديد ولُهاثي المضطرب قد بدأ يزعجني... جوّ رطب ثقيـل يجثم على صدري..

هناك دُرج حلزوني يصعد لأعلى.. نقش جميل على الجدران.. غريب !.. هذا ليس بناءا عربياّ، بالتأكيد..

إطارٌ ضخم تتوسّطه صورة رجل عجوز يطالعني بفتور... تمثـال هنالك، لم أحدد ملامحه جيدا.. و...

صوت صرير الباب ورائي !!.. لا بأس.. ما لي أرتعش هكذا !.. إنما هي الريـاح بلا شك... نعم.. لا بد أن تكون الرياح، لأنّ...

( تشراااااااااااك !! )


* * *

هل أستطيع القول أن قلبي توقف عن النبض ؟.. لا.. إنه أمر مُحال في عالمنـا.. و لكني أستطيع القول، على الأقل، أن الأوكسجين لم يعد يتخلّـل أنفاسي فضلا عن شراييني، عند سماعي لدويّ انغلاق الباب... وكنت سأخالها الريـاح من جديد لولا أن سمـعت و رأيتُ.. المزلاج يُسحب !!؟؟..

تمنيتُ لو لم أصدق ما رأته عيناي.. تمنيتُ أن أكون مجنونـا، أرى أشيائا و أسمع أصواتا لا تعدو مجرد هلوسات سمـعية و بصرية... تمنيتُ و لكن..

و لكن الباب قد أوصد بالفعل و المزلاج سُحب لوحده !، مُصدرا ذلك الصوت المعدني الصّـارم.. حدث ذلك أمام ناظريّ.. حدث ليفقدني صوابي بالكـامل..

وخزتُ يدي بشدة حتى تأوّهتُ من الألم.. استشعرتُ سـائلا دافئا، يُلطّخ رأس أُصبعي.. وضعت هذا الأخير في فمي.. تذوقته.. وقد كـان دما !..

هذا ما كنت أخشاه.. أن أكون مضطرا لتصديق كل هذا... أنا لا أحلم إذن.. و إلاّ فمن أين جاء الدم ؟.. و لماذا أشعر بهذا الألم المروّع بكفي ؟؟..


* * *

لا أعرف كم بقيتْ عيناي جامدتان على مشهد الباب الضّخم.. أثقلُ صمت على الإطلاق جثم على صدري حينها.. حتى حركة ستائر النوافذ الممزقة توقفتْ !.. ما زادني رعبا..

أردت التّنحنحَ حتى أطرد حشرجةً تجمّعت بحلقومي، فلم أستطع.. و سجنتُ شهقة لوقت لا يعلمه إلاّ الله و أنا في حالة نادرة من الشرود و انعدام الحيلة..

ربما ذلك الصوت الخافت الذي سمعتُ هو ما جعل قلبي يصحو من سباته و يدق بقوة حتى تردّد صداه بدواخلي..

لم أحدد طبيعة الصوت تماما.. و كل ما حاولت فعله حينئذ هو التـقدم باتجاه الباب للخروج من وكر العفاريت هذا..

و لكــن !!..


* * *

ربّاه!.. ما هذا الذي أسمع ؟.. من أين يأتي هذا الصراخ ؟.. و من يركض فوق ؟؟..

تسمّرتُ مكاني و أنا أحدّق ببقعة الضوء الشّاحبة على الأرضية الخشبية، العتيقة...

تخترق تلك الصرخات الممزوجة بضحكات شيطانية أذني لأشـعر بدوار مهول يوشـك أن يطرحني أرضا و ألم حاد ببطني من فرط الرّعب..

أميّزُ، الآن، طبيعة تلك الأصوات بوضوح.. ربما لأنها تقترب!.. تبدو كأنها.. ضحكاتُ طفلة صغيرة.. ؟؟؟؟؟؟..

و لكن مهلا.. لابد أن أجد شيئا منطقيا على الأقل هنا... ماذا تفعل طفلة صغيرة بهذا المنزل المهجور و مع هذا الوقت المتأخر من الليل ؟؟..

الصوت يقترب أكثر!..

هل يعقل أن يكون كل هذا مجرد تخيلات شيطانية، لا أساس لها من الصحة، نتجت عن توتري العصبي ؟.. يا ليته التـفسير الأصح..

الصوت يقترب و يعلو أكثر فأكثر!...

بسم الله الرحمان الرحيم... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...

ارتفع الصراخ الضّاحك و صار واضحا بنبرته الطفولية... و..

بسم.... الله.. الرحمــان....

صوت شيء يركض على الدّرج !!!..


* * *

هنا.. هنا بالذات خرجتُ من شرنقة الجمود التي كانت تغلفني و اندفعتُ بسرعة نحو الباب لدرجة أن رجلـيّ التوتا ببعضهما فسقطتُ و اصطدم رأسي بعنف على الأرضية ليتردّد صدى الارتطام به طويلا..

أسمع الآن صوت ضحكة طفولية، ساخرة.. ورائي مباشرة !...

لا.. لن ألتفت.. سأواصل الركض حتى أخرج من هذا المكان المجنون..

قفزت من مكاني و خطوتُ خطوات واسعة باتجاه الباب المغلق... قطرة دافئة تنساب على خدي.. إنه الدّم !.. قد أُصيب رأسي إثر السقوط..

وصلتُ أخيرا إلى الباب و لكن قبل أن ألمس المزلاج فوجئت بشيء قفز على كتفي..


* * *

لماذا يبدو المنزل مهجورا إلى هذا الحد ؟..

* * *

لم أستطع حمل جسدي من وطأة الرعب فسقطتُ و ذلك الشيء لازال متشبثا بعنقي و أنفاسه الكريهة تمتزج بأنفاسي..

التفتّ.. و..

رأيتُ اليدين و الرجلين ثم.. الوجه..


* * *

لم أخطأ التـقدير.. لقد كانت طفلة... و لكنها ليست بطفلة !..

رداء قذر حتى الركبتين.. ثم عظمتان نحيفتان !..

شعر أشعث، منتصب كأنه أشواك حادة !..

أما الوجه.. فمشوه و غير مغطى بالجلد كُـلّيته، و كأن به الجذام !..

و لا أذكر أنني رأيتُ عينين !.. فمقلتاها فارغتان إلاّ من ظلام مُـهول !..

ثم اليدين... فما عدا القليل من الجلد المشوه، المعفّن.. يمكنك أن تُميّز بوضوح عظـام الأصابع النحيفة..

رأيتُ كل هذا تحت ضوء القمر المنبعث من النافذة قرب الباب الموصد !.. تعوّذت في قرارة نفسي من الشيطان الرجيم، و ارتجفت ركبتاي حتى أوشكتُ على الانهيار..

ثم تذكرت أن المصباح قد سقط من يدي في مكان ما..

وثبتُ مذعورا فانفلتُّ من قبضتها لتسقط أرضا.. و هرولتُ كالسّكران وقد فقدت القدرة على التحكم في حركاتي.. ثم لم ألبث أن سقطتُ ثانية و تقيّأت كل ما بجوفي...


* * *

نَهَضَتْ و هي تواصل ضحكها المرعب.. و ببطء شديد توجهتْ إلى النافذة...

لم أنتظر لأعرف ما تنوي فعله و لملمتُ جسدي بصعوبة جمّـة.. مقـوّس الظهر، شاخص العينين، أبحث بيأس عن المصباح الضّـائع...

لـمحتُ ضوءه الخافت، المتـقطّع بجانب الدّرج فركضت نحوه بكل ما تبقّى برجليّ من قـوّة..

و ما إن انتصبت و وجّهتُ الضوء ورائي حتى لمحته... أقصد لمحتها.. واقفة خلفي مُباشرة و... بيدها شظية زجاج...


* * *

أرى الآن وجهها الأخضر، المقزّز بوضوح.. و أرى يدها و هي ترتفع و...

و تـهـوي...


* * *

أطلقت صرخة مروّعـة تحمل آلام الدنيا كلها لما انغرست شظية الزجاج تلك بكتفي الأيسر...

سقط المصباح من يدي و هويت خائر القوى، وقد شلّني الألم و الرعب..

رفعت رأسي ببطء و انقبض قلبي عندما لمحت يدها رافعة شظية أخرى..

زحفت على يديّ بجنون محاولا الفرار من موت محقّق و... و انفجر حلقي بصرخة مُـدوّية و قد انغرست الشّظية الثانية بجانب ظهري...


* * *

غـلّف عينيّ سواد أعظم من سواد المكان من حولي و تثاقل جفناي..

و برعب هائل انتفضتُ لمـا فهمتُ أنّني على وشـك فقدان الوعي..

و لكن الألم كـان أقوى مني بكثير و...

و عــمّ الظلام...

....
بدت الصورة أمامي ضبابية، ثم ما لبثتْ أن اتّضحت رويدا رويدا..

أين أنا بالضبط ؟.. ولماذا لم أمت بعد ؟.. كان من المفترض أن تقتلني تلك الـ... شرّ قتلة فور فقداني الوعي..

و لكن أين هي الآن ؟.. و ما هذا المكان المظلم الذي حُشرت فيه ؟.. و من أين تتسرّب هذه الرائحة النتنة ؟؟...

أدرت رأسي ببطء لأتفقّد المكان من حولي فاهتزّ جسدي فجأة من الألم لما اتكأت على مكان الطعنة في ظهري..

صدرت مني أنّة، حاولت أن أكتمها حتى لا تدري هذه الــ... (بسم الله الرحمان الرحيم) بعودتي إلى وعيي..

تحسّستُ جرحي بحذر فابتل كفي بالدّم !..

آآآه !..

بدأتْ عيناي تألفان الظلام، و ما إن أدرتهما بالمكان ثانية حتى شهقت بعنف و انقبض قلبي..

لمّا رأيت المشهد أمامي...

أجساد مُعفنة، بلا رؤوس و لا أطراف.. معلقة بحبل من وسطها إلى السّقف...

يا إلهي.. يا إله السماوات !..

لم أعد أتحمل كل هذا...

التفتُ بسرعة إلى الركن الآخر فتبيّنت بصعوبة.. كومة من الرؤوس الآدمية، المشوهة و قد رُسمت على قسماتها أعتا علامات الذعر و الهلع...

فهمتُ حقيقة ما يجري بهذا المنزل اللعين.. تذكرتها وهي تطعنني بشظايا الزجاج.. و تخيلتها و هي تجرني فاقدا للوعي على السلم إلى هذه الغرفة.. و تخيلتُ نفسي معلقا بجوار تلك الجثث.. بلا رأس.. بلا أطراف...

قفزت من مكاني، وقد استيقظتْ بدواخلي غريزة البقاء..

بحثت بلهفة عن مصباحي على أرضية الغرفة الواسعة، المظلمة.. لكن بلا جدوى..

ثم انتصبتُ بجهد جهيد على قامتي، و ما إن فعلت حتى.. دخلتْ الغرفة !..


* * *

كانت تحمل سكينا و تحركه بمرح الأطفال، و ضحكتها المتحشرجة تكاد تجعل قلبي يتوقف..

إنها تتجه نحوي، و أنا لا أبدي حركة على الإطلاق، لأنني لا أعرف ما أقوم به حتى هذه اللحظة !.. و إن لم أتصرف بسرعة ستفصل رأسي عن جسدي، حتما !..

ما زالت تتقدم بهدوء و ببراءة الأطفال !..

ركضتُ إلى ركن من الغرفة و التصقت بالحائط.. ثم رفعت يدي بسرعة لما تحسست شيئا لزجا عليه.. دققت النظر فوجدته دما !.. إن حائط الغرفة ملطخ ببقع هائلة من الدم المجمّد !..

صرختُ بأعلى الصوت...

فرأيتُ في وجهها المظلم و هو يقترب إليّ.. شيئا من السخرية و الشماتة !..

و لما اقتربتْ أكثر من اللازم، حاولت الركض إلى الباب.. و كنت قد تأخرت كثيرا !..

إذ تمكنت من التعلق برجلي بعد أن وثبتْ وثبة مخيفة.. فطُرحتُ أرضا !..

و السكين بيدها !..


* * *

و بسرعة.. صعدتْ فوق ظهري.. و قد شُلِلتُ و لم أعد أعرف كيف أحرك عضوا من أعضائي !..

لم أنتفض أو أحرك ساكنا و لم أكن لأفعل لولا أن انغرس شيء حادّ بكتفي.. و بالضبط في مكان الجرح الذي خلّفته الشظية !..

هنا لا أجد كلمة تصف حجم الألم الذي صعق جسدي !... لكم أن تتخيلوه لو استطعتم !..

ثم أيقنتُ أنني انتهيت لما بدأت تطعنني في المكان ذاته و حول كتفي مرات و مرات..

صرخت صرخات مكتومة و قد نفذت كل طاقتي تماما.. ذرفت الدموع و أنا أنظر نظرة جانبية إلى الجثث المعلقة.. ستنضاف ضحية جديدة عما قليل.. و هي الآن تُمزَّقُ لتأخذ الشكل المناسب !..

بُترت ذراعي اليسرى.. في الحقيقة لم أشعر بها و هي تُجتثُّ من مكانها لأنني وصلت قبل ذلك إلى ذروة الألم !..

و لم أتأكد ذلك حتى رأيتها منتصبة و هي تحملها بيدها.. تحمل ذراعي !.. و فمها الضاحك.. يكشف على أسنان صفراء !!..


* * *

لا يهم فأنا سأموت طبعا.. لكن الغريب هو أنني لم أفقد وعيي حتى الآن !.. يا إلهي.. هل سأكون أول إنسان يشهد أطرافه و هي تبتر واحدة تلو الأخرى..

مَشَتْ ببطء إلى ركن الغرفة.. حيث الرؤوس و الأطراف.. جلستْ القرفصاء و بدأتْ تغني.. نعم تُغنّي.. و لا تسألوني ماذا كانت تقول.. فأنا لا أفهم الفرنسية !.. و لكنني أميزها على الأقل إذا سمعتها !..


* * *

تذكرتُ فجأة ابني الصغير.. حبيب قلبي (محمود) و هو يستظهر إحدى القصائد الفرنسية التي يلقنونها لهم بالمدرسة !..

ذات الصوت الطفولي المرهف و هو ينشد بكل استسلام و حب..

و هنا وقفتُ صارخا.. و لا أعرف كيف استطعتُ ذلك..

يجب أن أرى ابني.. فقد طلب مني عدم التأخر.. و سألني أن أجلب له الحلوى.. و زوجتي (السعدية)....

لا.. لن أموت هنا... لااااا..

ثم ركضتُ بلا تفكير نحو النافذة و ارتطمت بها بكل ما أوتيت من قوة.. و طار جسمي في الهواء !..


* * *



كانت أول تجربة لي في القفز من نافذة بالطابق العلوي.. و لحسن حظي تلقتني السنابل الكثيفة مما خفّف الصدمة قليلا !..

نهضتُ بنفس الحماس و الهُياج.. نظرتُ إلى مكان الذراع المبتور.. و رأيت الدم يتدفق منه بغزارة.. احترق قلبي حسرة.. فقد أصبحتُ معاقا و لم أزل رجلا يتفجر ينبوع القوة بشراييني.. وا حسرتاه !..

لكنني نفضتُ عني الحزن و كفكفتُ دموعي.. فالمسألة مسألة حياة أو موت الآن..

ثم بدأت أركض وسط الحقل المظلم !..

و ما إن توغّلتُ قليلا وسط السنابل حتى سمعتُ صرخة جهنمية ورائي !.. و لما التفتُ.. رأيتُ الطفلة الشيطانة تستقر على الأرض بعد أن قفزتْ من النافذة بدورها.. و كانت تزمجر بثورة و كأنها لم تصدق أنني نجحتُ في الإفلات من براثنها..

و بدأت المطاردة..


* * *

كنتُ أراها تركض بسرعة مخيفة كلما نظرتُ ورائي.. و المسافة بيننا تتضاءل شيئا فشيئا.. و كأنها تطير فوق الأرض !..

و لم أكن لأتبين الطريق أمامي لشدة الظلام و كثافة السنابل.. وقد ضاع مصباحي.. لولا نور القمر الذي يُظهر أنصاف الأشياء !..

التفتُ مرة أخرى حتى أقيس المسافة بيننا.. فذعرت لما رأيت وجهها أقرب من اللاّزم !..

ثم تعثرت من شدة الرعب.. و لم أستطع النهوض بسرعة.. و هي لا تتوقف عن الركض الصاروخي و قد بدأت أرى بريق المُدية في يدها !..


* * *

لا يهم فأنا سأموت طبعا..

* * *

نهضتُ أخيرا قبل أن تصل إليّ بمتر واحد.. و ما إن أطلقت رجليّ للريح حتى اخترقت شفرتها فخدي !..

صرختُ صرخة ترددت بالأجواء فحلّقت طيور سوداء..

لكنني قاومت الألم بصبر خرافي !.. و انحرفتُ في مساري حتى أتملّص من قبضتها..

ثم رفستها على وجهها بقوة فسقطت إلى الوراء بعنف..

انتهزتُ الفرصة و واصلتْ رجلاي التهام الحقل بجنون..

و لاح الجسر.. فتضاعفت سرعتي و تضاعف لُهاثي..

ابنــي.. أنا قادم !..


* * *

اقتربتُ من الجسر.. و أنا أقاوم دوارا يكاد يُلقي بي أرضا، مغشيا عليّ.. و حينذاك ستكون النهاية.. و سيذهب هذا الأمل الضئيل في قلبي..

انحرفتُ عدة انحرافات و توقفتُ عدة مرات خلف شجرة في طريقي حتى أضللها ثم أعاود الركض من جديد..

و أنا كذلك حتى لم أعد أراها ورائي.. وصلتُ الآن للجسر.. أرى صفحته الهادئة تلمع لمعانا..

اختبأتُ خلف بعض الحشائش العالية.. و ما إن جلستُ القرفصاء حتى انطلقتُ ألهث بحدة.. فوضعت كفي اليمنى على فمي و قد اتسعت عيناي رعبا.. فقد تهتدي إلى مكاني بسبب هذا اللهاث الذي لا أستطيع التحكم به !..

و فجأة لاحتّ أمامي..


* * *

أوقفت أنفاسي على الفور !..

كانت تنظر هنا و هناك و قد بدت عليها إمارات التوتر.. ضربت برجلها الأرض و صرختْ صرخة.. و كأنها عواء الذئب !..

هي لم تلمحني على ما يبدو..

أشعر برئتيّ تنتفخ و كأنها ستنفجر.. و لكنني اختنقتُ و صمدتُ..

ثم صمدتُ أكثر لما تذكرت (محمود).. فلذة كبدي.. سأعود لك يا حبيبي، سأعود..

و في هذه اللحظة، نظرتْ إلى المكان الذي أختبئُ فيه !!..


* * *

أرى بريق المُدية في يدها !..

* * *

تجمدتُ مكاني و ازداد وجهي احتقانا.. إنني أمام نوعين من الموت الآن... الموت اختناقا.. أو.. الموت تقطيعا..

و نظرتْ مليّا، بعينيها الفارغتين، حيث أتوارى.. ثم ما لبثتْ أن حوّلتْ نظراتها إلى مكان آخر..

رباه !.. لم أعد أستطيع التحمل أكثر من هذا !..

هل حلّت النهاية إذا ؟.. ألن أرى ابني ثانية ؟.. ثم سالت دمعة ساخنة على خذي و أنا أستعد للزفير !..


* * *

لكن قبل أن أقدم على ذلك الفعل الانتحاري.. حدث شيء غريب !..

إذ ركضتْ نحو الجسر و هي تصرخ و تبكي.. كالطفلة التي حُرمت من شيء ما !..

اعتلت حاشية الجسر.. و انتصبت طويلا.. ثم أصدرت صيحة مدوية، جهورية.. لا فارق بينها و بين عواء الذئب !..

و سمعتُ إثرها رفرفة كثيفة على الأشجار المحيطة بالمكان.. ثم..

هوى الجسد الصغير بهدوء.. و سُمع صوت ارتطامه بالنهر..

فأطلقتُ بعد ذلك أعمق نفس في حياتي.. حتى كاد قلبي أن يُقتلع من صدري !..

نفس حمل معه رعبا و تعحبا و خلاصا..

ثم أظلمت الدنيا..


* * *
تفتّحتْ عيناي ببطء فأحسستُ بجسمي الممدّد و أوصالي المنهكة.. و لكني لم أكن على الأرض هذه المرة.. بل فوق سرير ناعم و قد أًرخي فوقي غطاء خفيف.

انتشرت حولي همهمات و صيحات يُخالطها صوت بكاء شجي ليس صاحبه بغريب !.. إنه صوت عمي العجوز..

التفتُ بضعف فألفيتُ عمي جالسا على كرسي خشبي، ينظرني و يسكب العبرات في حرقة و حسرة على ما آلت إليه حالتي !.. و كان بجنبه رجال ضخام الجثث، لا أعرفهم و لكن سيماء الفلاحين بادية على وجوههم. هنئني بعضهم على نجاتي و عزّاني آخرون، في حين اكتفى البعض بابتسامات مريرة..

ثم جلس الكلّ إلى مجلسه و لم يُبد أحد رغبة في الكلام.. نهض شاب من بينهم و بخفة وضع صفحة على منضدة خشبية قربي، ثم رفع الإبريق و وزّع الشاي على الكؤوس، فمزّق صوت الانسكاب الصمت و بدا حزينا هو الآخر !..

قمتُ بصعوبة لأسند ظهري على الحائط و لاحظت أن كتفي الأيسر ملفوف بضمادة ملطخة ببعض الدم !.. فسرت بجسدي قشعريرة مُخيفة !..

تجرّعنا الشاي الساخن و حكيت لهم قصتي بصوت واهن.. و كنت في أثناء سردي لكابوسي المروع ألاحظ من يومأ برأسه و من يهمس لصاحبه و كأنهم على علم بشيء خطير !.. فلم أكد أتمّ كلامي حتى توجهتُ إليهم قائلا:

- لماذا تتكلمون هكذا ؟.. أهناك شيء يجب أن أعرفه ؟

فتبادلوا نظرات ذات معنى ثم التفتَ إلي رجل، ملتحي، يبدو رزينا وقورا فأنشأ يقول:

(( إن هذا المنزل الذي تتكلم عنه يا بني منزل قديم جدا.. شُيـّد أيام الاستعمار !.. و هو يعود لعائلة فرنسية، فاحشة الثراء تملك كل الأراضي بهذه المنطقة و بمناطق أخرى من المملكة !..

اعتدلتُ مكاني و صوّبت نظراتي إلى الرجل المتحدث.. فواصل قائلا..

(( و كانت لهذه العائلة طفلة وحيدة اسمها (إليزابيث)..

و قد كان العمّال المستخدمون بهذه الأراضي الشّـاسعة، يعني أجدادنا.. كانوا يملكون أكواخا صغيرة وسط الحقول و كـان لهم أطفال صغار.. يجتمعون كل مسـاء ليلعبوا و يمرحوا..

و المشكلة في كل هذا أن الطفلة إليزابيث كانت وحيدة.. لا تلعب مع أقرانها في المساء و لا تنخرط في لهوهم و شغبهم.. فقد كانت معروفة بالتجهم و الاكتئاب.. و انتشرت الأقاويل بين الأطفال حول هذه الفتاة المنعزلة و التي كثيرا ما تُشاهَد تُـكلّم نفسها و تبكي و أحيانا تتمرّغ في التراب..

و لم يستطع أحد التقرّب منها أو مكالمتها أبدا، حتى أبويها كانا يُلاحظان غرابة أطوارها و شذوذ تصرّفاتها.. فقد كانت أحيانا تحتفظ بحصّتها من الطّعـام و تُقدّمها لقطّتها، فكـانت هذه الأخيرة أعزّ ما لها في حياتها..

و لم يكف والدها (فرانسوا) عن جلب الأطبّـاء و المعالجين النفسيين لمعاينتها و لكن دون جدوى..

و يُقـال أنها اقتربت ذات يوم من الأولاد وهم يلعبون الكرة و صرخت فيهم بما معناه أنها تكرههم لأنهم يربطون علاقات مع الفتيات في حين أنها لم تحظ بواحد و لم يتقرّب إليها أحدهم و أقسمت أنها ستنتقم منهم جميعا فضحكوا عليها و سخروا من نبرة صوتها الغريبة و واصلو لعبهم..

و في اليوم الموالي شاع خبر انتحارها !.. فقد وجدوا جثتها قرب النّهر و قد اخترق سكّينان عيناها الزرقاوتان حتى خرجا من قفاها !...

جُـنّت أمها من هول الصدمة، و حزن أباها بالغ الحزن، ثم قرّر الرّحيــل مع زوجته المجنونة إلى فرنسا تاركين هذا المنزل مُحاطا بهالة من الشّؤم و الرّعب..

و بعد ذلك بسنوات..

صمت الرجل و أطلق زفرة حارة و هو ينظر إلى الأرض، ثم رفع رأسه ناحيتي و أردف..

(( بعد ذلك بسنوات حدثت وقائع غـامضة، لم يفهمها أحدنا بادئ الأمر..

فقد اختفى كل الأبناء الذكور للفلاحين المستخدمين بالحقول، من جيل السّي (لعربي)، و أشار إلى عمّي العجوز.. ففسّرتْ ذلك زوجة أحد الفلاحين، و كانت تمارس السحر، بكون شبح تلك الفتاة قد عاد من عالم الأموات، إلى المنزل المهجور، بطريقة شيطانية، و هي المسؤولة عن الاختفائات، إذ تتصيّد الشباب الذين أقسمت على الانتـقام منهم واحدا واحدا..

لم يصدقها أحدنا في البداية و نعتناها بالخبل و الجنون.. لكن سرعان ما انتشرت أخبار و أقاويل عن صراخ و ضحكات طفولية بالمنزل اللعين، فتأكدنا من صدق كلام المرأة العجوز..

ثم في العامين الأخيرين كان الناس يتحدّثون عن صوت طفلة صغيرة ينادي الشباب و عندما يقتـفي هؤلاء أثره يختـفون بطريقة غامضة !.. مما زاد نظرية العجوز تأكيدا.. و قد ذهب ضحية ذلك خمسة شباب آخرين..

أما هذا العام فلم تحدث أية واقعة مشابهة، إذ اختـفى كل أولاد العمّـال و أقاربهم ممن عرفتهم الطفلة (إليزابيث) !.. )).

أوجم الرجل و التقط أنفاسه.. فأطبق الصمت على الغرفة الضيقة لبرهة قبل أن أقول و أنا أحك مؤخرة رأسي:

- و أين هو كوخ عمي و الأكواخ الأخرى التي كانت قرب الجسر ؟.. ثم لماذا تبدو الأرض المحيطة بالمنزل معتنى بها في حين أن أصحابها قد هاجروا منذ زمن طويل ؟.. و ليس هناك منزل آخر لمالك جديد أو أكواخ عُمال مثلا ؟..

و أجابني نفس الرجل بعد أن تبسّم لأول مرة:

- إنك ذكي كما يقال عنك حقا !..

ثم استطرد و هو يجيل النظر في أصحابه..

- بعد رحيل عائلة (فرانسوا) لم يمتلك الأرض أحد، فقد كان العمال كالعائلة الواحدة، يجمعهم رابط عجيب من المحبة و الأخوة و كان سيدهم (فرانسوا) مثالا حيا للجود و الاستقامة و حُسن الأخلاق.. فلم يتوانوا على خدمة الأرض و الاستفادة منها جميعا بعد رحيله. ثم ورثناها نحن، أحفادهم، و خدمناها بجد و اجتهاد كما خدموها.. حتى وقع أول اختـفاء لرجل بينما كان يعمل قرب المنزل.. ثم الاختـفاء الثاني و الثالث.. و جاء تفسير الساحرة، فدبّ الرعب في القلوب و هاجرنا بعيدا عن المكان بعد أن هدّمنا الأكواخ لئلا يسكنها أحد بعدنا..

فساد الصمتُ ثانية، لأقول هذه المرة بصوت رخيم:

- و طبعا بقي واحد فقط من أولئك الأشقياء.. و قد نجا بالأمس من الموت بمعجزة !..

ففهموا قصدي و حركوا رؤوسهم إيجابا و تلفظ بعضهم بعبارات الحمدلة..


* * *

و حين جنّ الليل و انصرف الجميع من الحجرة بعد أن شكرتُ لهم صنيعهم و قبّلتُ رأس عمّي الذي أمطرني بعبارات العزاء و دعاني إلى الصبر و الاحتساب.. و بعد أن تدثّرتُ بغطائي و أبصرتُ بالسقف المظلم مدة لا بأس بها.. قرعتْ ذاكرتي، فجأة، أحداث و مشاهد أنارت تماما بعض ما كان يشغل تفكيري !..

إذ تذكّرت أيّـام طفولتي التي قضيتُ قسطا كبيرة منها في منزل عمّي الذي كان آنذاك شاباّ يعمل بأحد الحقول...

أتذكّـر الآن جيدا تلك الفتاة الشّقراء، زرقاء العينين و التي كنتُ أتمنّى التعرّف عليها و التـقرّب منها لولا غرابة أطوارها و انعزالها الشديد و ما يُروى عنها من أشياء غريبة..

تذكرتُ ذلك اليوم عندما كنت ألعب الكرة مع أقراني.. نعم، أتذكره الآن بوضوح.. فقد جاءت تلك الفتاة ثائرة و بدأت تصيح فينا و تقول أشياء، لم أسمعها جيدا، ربما كنت بعيدا عنها، لكني لن أنسى عيناها الزرقاوتان و هي تتفحصنا باهتمام و كأنما لتتذكرنا !..

و أدركتُ أنني الوحيد المتبقي من هؤلاء الأولاد المساكين، و أنا، بسذاجتي و غباوتي، جئتُ هنا في الوقت الملائم لألقى حتفي لولا حماية الله تعالى و رعايته لي.. فالحمد له و الشكر.

و قد عرفت، بالتأكيد، هوية تلك الجثث المشوهة التي رأيتها بالمنزل.. إنها لأصدقائي القدامى و الذين كنت أتساءل بشدة عن انقطاع أخبارهم عني في الآونة الأخيرة.. أما سرّ تلك العينان المظلمتان، و اللتان لم تفارقا كوابيسي منذ ذلك اليوم، فطريقة انتحار الطفلة تفسره جيدا..

ثم لاحت صورة ابني الحبيب (محمود) على السقف فابتسمتُ بشرود..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة
» إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة
» إليزابيث تنبيه: لا أنصح ضِعاف القلوب، مُرهفي الإحساس بقراءة هذه القصة..فهي ليست بهيجة
» فلم ارعب لصحاب القلوب القويه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى مركز التوازن للتنمية البشرية :: القصص والروايات-
انتقل الى: